للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت -والله- لأغظين الشيطان بهذا الخبر، فإن أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض، فالناس يحسبونه قد تخلى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه نوع نظام آخر غير نظام أعضائه؛ ولا أشق من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكا عظيما تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حيزت له جوانب الأرض، لكان علمه هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها.

قال أحمد بن مسكين: وقصصت عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عقبة كثير الفكر في الشيطان، يود لو رآه وناقله الكلام؛ وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودها فيه، ويفسر معنى الشيطان بأنه الروح الحي للخطأ على الأرض؛ والخطاء يكون صوابا محولا عن طريقته وجهته، ولهذاكان إبليس في الأصل ملكا من الملائكة وتحول عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روح الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ.

فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته، كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أخرجت من الجنة، وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها، ليضطربا في الكفاح مليا من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي: لم يعرف آدم حق الجنة، فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر.

وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العين نائمة والعقل لا يزال منتبها، فكأن العين متراجعة تبصر من تحت أجفانها بصرًا يشاركها فيه العقل.

فرأى شيخنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زي رجل زاهد، حسن السمت طيب الريح، نظيف الهيئة، وكاد يشبه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه، فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدمي قفر كالمتاهة من الأرض، فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة.

<<  <  ج: ص:  >  >>