وظهر الشيطان زاهدًا عابدًا تقيا نقيا كأنه دين صحيح خلق بشرًا، فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟
قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية: إنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية؟ أوَلا ترى يا أبا عامر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟
قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا ردا عليك أنت، ليتبين الناس أنك الممتلئ الممتلئ، ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية منك ورد عليك، فلا طعم للذة من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة: قد انتهيت. فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف.
قال إبليس: يا أبا عامر، ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنين إليها، وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد.
قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها، ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟
قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبة القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها، وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؛ أفتدري يا أبا عامر أني لا أعتري الحيوان قط.
قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة، هي نظره وفهمه معا، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء: ٢٢١، ٢٢٢] . فأنت أيها الشطيان التزوير، والتزوير موضعه الكذب؛ فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء، فليس لك عنده عمل.
قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد العباد، هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟
قال الشيخ: عليك وعليك ... ؛ إن الحيوان شيء واحد، فهو طبيعة مسخرة