للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والذهب والتراب، كل ذلك نور١ صرفته القدرة الإلهية تصريفها المعجز، فكان، على ما نرى: ظاهرا مخيل يلائم نقصنا وعجزنا، وحقيقة قارة على غير ما نرى. ومن ذا يعقل أن الصخر نور متجمد إذا لم يكن له إلا عقل عينه وحواسه؟ ومن ذا يطيق أن يفهم بحواسه وعينه قول الله -تعالى-: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: ٨٨] ؟ فالجبال جامدة ثابتة، غير أنها تمر بأرضها وتموج في نفسها؛ ومتى تأذن الله أن ينكشف نور كلامه للعقل الإنساني، فستكون هذه الآية علما جديدًا في الأرض، يثبت أن السحاب والجبل مادة واحدة وصنع واحد.

ويا لها سخرية بالإنسان وجهله! فإنه إذ كانت الحقيقة غير ما نرى، فكل شيء في الدنيا هو رد على النظر الإنساني، ويكاد الجبل العظيم يكون كلمة عظيمة تقول للإنسان: "كذبت! ".

فالشأن في الخوارق والكرامات راجع إلى القدرة أن يسلط الإنسان الروحاني ما فيه من سر النور على ما في بعض الأشياء من هذا السر، وتلك هي طاعة بعض الكون لمن ينصرف عن المادة ويتصل بخالقها.

فإذا بقي في الرجل الروحاني شيء من أمر جسمه يقول: "أنا ... " لم يكن في الرجل من تلك القدرة ذرة؛ فإن هو حاول أن يخرق العادة، أبى الكون أن يعرفه إلا كما يعرف حجرا ملقى يحاول أن يتصرف بالجبل الذي هو منه فينقله أو يزحزحه أو يزلزله.

ولا خير على الأرض مطلقا إلا وهو أخذ من حقوق هذه الـ"أنا ... " في إنسانها، ولا شر على الأرض مطلقا إلا وهو إضافة حقوق إليها؛ فحين لا يبقى لها حق في شيء عند نفسها، يجب لها الحق عندئذ على كل شيء. وهذه هي الكرامة؛ تكرم الخليقة من أكرمه الخالق.

فمن أراد أن تتصل نفسه بالله، فلا يكن في نفسه شيء من حظ نفسه، ولا يؤمن إيمان هؤلاء العامة: يكون إيمانهم بالله فكرة تذكر وتنسى، أما عملهم فهو إيمانهم الراسخ بالجسم وشهواته يذكر ولا ينسى.

وأنت ترى رجال الروح يأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن هذا كله ليس فيه ذرة من أرواحهم، على خلاف غيرهم من الناس؛ فهؤلاء كل أرواحهم في مطاعمهم ومناعمهم، ومن ثم لا يجري الشيطان من الأولين إلا في مجار ضيقة.


١ كلمة "النور" هذه هي التي يعبر عنها اليوم بالكهرباء، وقد ثبت أن الكون كله هو هذه الكهرباء متجمدة على ما شاء الله أن تكون.

<<  <  ج: ص:  >  >>