أشد الضيق لا يكاد ينفذ منها إلى فكر أو شهوة أو حلم من أحلام الدنيا، أما الآخرون فالشيطان فيهم هو تيار الدم، يعب عبابه في الأسفل والأعلى.
قال أبو الحسن: وكنا يومئذ في دمشق، فنبهني كلام الشيخ عن الشيطان إلى ما قرأته عن كثيرين ممن رأوا الشيطان أو حاوروه أو صارعوه؛ فقلت للشيخ: إن من حقك علي أن أسألك حقي عليك، وما في نفسي أحب إلي ولا أعجب من أن أرى الشيطان وأكلمه وأسمعه؛ وأنت قادر أن تنقلني إليه كما نقلتني إلى ما دخلت بي عليه من عوالم الغيب.
قال الشيخ: وماذا يرد عليك أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: سبحان الله! لا يجدي علي شيئا إلا أن أسخر منه.
قال الشيخ: فإني أخشى يا ولدي، أن يكون الشيطان هو الذي يريد أن تراه وتسمعه ... !
قلت: فإني فأريد أن أسأله عن سره، فيكون علمًا لا سخرية.
قال: لو كشف لك عن سره لما كان شيطانا، فإنما هو شيطان بسره لا بغيره.
قلت: فأريد أن أرى الشيطان لأكون قد رأيت الشيطان!
قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! لو كنت يا أبا الحسن بأربع أرجل لهربت من الشيطان بثلاث منها وتركته يجرك من واحدة!
قلت: يا سيدي، فلو كنت حمارًا لبطل عمل الشيطان في أرجلي الأربع كلها؛ إذ لا حاجة به إلى إغواء حمار!
فتبسم الشيخ وقال: ولا بد أن ترى الشيطان وتكلمه؟
قلت: لا بد.
قال: إنه هو يقولها، فقم!
قال أبو الحسن: وكان الشيخ إذا مشى إلى أمر خارق بقيت معه غائبا عن الحس، كأنه يبطل مني ما أنا به أنا، فأصبح ظلا آدميا معلقا به. ولا تقع الخوارق إلا لمن وجد القوة المكملة لروحه، وهذه القوة تستمد من الشيخ الواصل، فلا بد من إمام يأخذ عن إمام، كأنها سلسلة نفسية متميزة في الأرض، فتتغير الواحدة منها بالواحدة، إذ تقع في جوها فتورق وتثمر؛ كالشجرة: جو يكسوها، وجو يذبلها، وجو يسلبها سلبا؛ وكذلك تفعل النفس إذا كان لها جو.