وخرجنا من دمشق وأنا خلف الشيخ كالمحمول، فرأيتنا وقد أشرفنا على بناء عظيم، ورأيت أقوامًا يتلقون الشيخ ويسلمون عليه ويتبركون بمقدمه؟ فأنكرتهم نفسي ووجدت منهم وحشة، فالتفت إلي الشيخ وقال: هؤلاء من الجن، وما إليهم قصدنا، فلا تشتغل بما ترى واشتغل بي.
ثم ننتهي إلى البناء العظيم، فتستقبلنا طائفة أخرى، ويدخلون الشيخ وأنا خلفه، ويمرون بنا على دنيا مخبوءة تعجز الوصف، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت؛ فيقولون: هذه كنوز سليمان وذخائره، ويطوفون بالشيخ يعرضونها عليه كنزا كنزًا، فرأينا ثم نعيما وملكا كبيرًا، ثم انتهينا آخرًا إلى مغارة خسيفة كأنها عرق من عروق جسم الأرض، يتفجر منها دوي كالرعد القاصف، إلا أنه في السمع كخوار الثور، إلا أنه ثور خيل إلي أن رأسه في قدر جبل عظيم، يتعلق به غبغب١ في قدر جبل آخر، على جسم يسد الخافقين، فخواره كأنه صراخ الأرض، وإذا أنا بأقبح مكان منظرًا، وأنتنه ريحا، كأنه سجن بناؤه من الجيف.
فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا سجن إبليس، وهو هنا في هذه المغارة منذ زمن سليمان عليه السلام.
قلت: أفمسجون هو؟
قالوا: وإنه مع ذلك موقر بأمثال الجبال حديدا يربض به في محبسه، فلا يتزحزح ولا يتحلحل.
قلت: وإنه مع ذلك قد ملأ الدنيا فسادًا، فكيف به لو كان طليقا؟
قالوا: فلو أنه كان طليقا لاستحوذ على الناس كافة؛ فيجتمع أهل الأرض على شهوة واحدة لا شيء غيرها، فيبطل مع هذه الشهوة الواحدة كل تدبير بينهم، فلا تقوم لهم سياسة، ولا يكون بينهم وازع؛ فيرجعون كالكلاب أصابها الكلب وهاج بها، فأنيابها في لحمها، لا يزال يعض بعضها بعضا، فليس لجميعها إلا عمل واحد يسلمها إلى الهلاك، ويصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديم.
وإنما يصلح الناس باختلاف شهواتهم وتنافرها وتنازعها: فبعضها يحكم بعضا، وشيء منها يزع شيئان ومن تخلص من نزوة قمع بها نزوة أخرى؛ كالمتزوج المحصن؛ يحكم بالجلد والرجم على من ليست له امرأة فزنا؛ وكالغني الواجد؛ يحكم على اللص الذي لم يجد فسرق، وهلم جرًا.