للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: أراك الآن لم تلعن، فلست قائلها إلا إذا ترحمت علي.

قلت: عليك وعليك من لعنات الله! قل لماذا؟

قال: أسائل ويأمر؟ وطفيلي ويقترح؟ لا بد أن تترحم!

قلت: يرحمنا الله منك! قل لماذا؟

قال: وهذه لعنة في لفظة رحمة؛ لا، إلا تترحم علي أنا إبليس الرجيم!

قلت: فيغني الله عن علمك؛ لقد ألهمتنيها روح النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسيرا للألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكأن روح النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها؛ وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ نفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعل ناحية الإسراف فيها إسرافًا في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك -أيها اللعين- وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك -أيها الرجيم- وأقبل على سعادة نفسه، وترك الغضب وحظوظ النفس هو الصبر على حوادث العمر كله، كصبر المسافر إن كان عزيمة مدة الطريق كلها، وإلا كان فسادًا في القوة ووقع به الخذلان.

فهذا الصبر المعتزم المصمم، الذي يوطن به الرجل نفسه أن يكون رجلا إلى الآخر, هو تعب الدنيا، ولكنه هو روح الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمن الصابر رجل مقفل عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطان ولا تفتحها مصائب الدنيا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره" , كأن يقول: لو لم يصبر المسافر دائبا معتزما مدة سفره كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمن مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه.

فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن: ما صبر رجل مؤمن قوي الإيمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يفيق من سكر الغنى، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبية الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردته على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يصدق؛ وجهدت به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدأ؛ وحاولت منه أن يطمع، فرأى الراحة أن يرضى؛ وسولت له أن يحسد، فرأى الفضيلة ألا يبالي، وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبر والهدوء والرضا والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها؛ وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمال في نفسه الطيبة الصافية؛ وأجرى ما يؤلمه وما يسره

<<  <  ج: ص:  >  >>