الحجة سنة ١٣٥٣ و١٨ من مارس سنة ١٩٣٥، وأرسلت به مقالة "الخروفين"١.
قال: ماذا أسمع؟ نحن الآن في سنة ٣٩٥؛ فالرجل مجنون، أولا فأنت أيها الرجل من معجزاتي، لقد جئت بك من التاريخ، فسترى وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي!
قلت: فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة ٤١١!
قال: أوَإله أنت فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد علي دعوى المعجزة!
وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس إلخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعا، ويخترع أحكاما يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها، ثم يعود فينقض أمره ويعاقب على الأخذ به، كان الذي نقض غير الذي أبرم، وكأنه حين يتبلد فيعجزه أن يخترع جديدًا يجعل اختراعه إبطال اختراعه.
ورأيته كأنما يعتد نفسه مخ هذه الأمة، فلا بد أن يكون عقلا لعقولها، ثم لا بد أن يستعلي الناس ويستبد بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقص أعمال الشريعة الإسلامية، وظن أنه مستطيع محو ذلك العصر من أذهان الناس وقتل التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفاك.
وسول له جنونه أنه خلق تكذيبا للنبوة؛ ثم أفرط عليه الجنون فحصل في نفسه أنه خلق تكذيبا للألوهية؛ وفي تكذيبه للنبوة والألوهية يحمل الأمة بالقهر والغلبة على ألا تصدق إلا به هو؛ وفي سبيل إثباته لنفسه صنع ما صنع، فجاء تاريخه لا ينفي ألوهية ولا نبوة، بل ينفي العقل عن صاحبه، وجاء هذا التاريخ في الإسلام ليتكلم يوما في تاريخ الإسلام.
رأيتني أصبحت كاتبا لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه، وأقبلت على ما أفردني به وقلت في نفسي: لقد وضعتني الدنيا موضعا عزيزا لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر ٩٦٨ سنة صاعدة في العلم.