للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجلد الثاني:

أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد، دنيء الحيلة، يهودي المكر، فأمر بعمارة المدارس للفقه والتفسير والحديث والفتيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء "والمشايخ"، وبالغ في إكرامهم، والتوسعة عليهم، والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم.

وأحضر لنفسه فقيهين مالكيين "اثنين لا واحد" يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك!

وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة اليهودية رأس المال والربا، فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملا واحد في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية!

إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته، شيئا واقعًا، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق من المسلمين كل ذي عمامة في عمامته، ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة، ولا يعلم أنه لهوانه على الله قد جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضر بالطاعون، فلو فخرت ذبابة، أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يظن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟

قد أودى بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها.

إنه -والله- ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها!

<<  <  ج: ص:  >  >>