للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأنبياء والعضافيط ... فذلك وحي غير وحيي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد، وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي, فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا ... !

فضحكت "العمامة" وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ"أنا"؛ أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري القول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل، تأتي من النقص المتحيف لجهة أخرى؛ وإنه رب عقل كان تماما عبقريا في أمور، لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يحسن في تلك ما لا يحسنه أحد، ويحكم منها ما لا يحكمه أحد، ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟

قالوا: فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها امتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها انبعج منها نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه "العمامة" فاشنقوها؛ فإنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل ... !

وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء، ومأكولون بكل آكل؛ فتشبح١ لهم أن أنثى الفيل هذه ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فإنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلا فوقهم كأنه ظلة فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم انخزلوا وتراجعوا، وأخذت "العمامة" الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها، وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها.

قالوا: واغترت الماعزة وأحست لها وجودًا لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نابهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلة وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو ...


١ أي خيل إليهم وتمثل.

<<  <  ج: ص:  >  >>