وثبت عندها أنها ليست بعنز وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء، فإذا مشت ارتجت وتخطرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا اضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها ... !
ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرة أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة.. وتأهبت هذه للقتال، وتحصفت في المبارزة والمناجزة ... "والمعانزة" فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها، وكانت عنزا نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت؟
ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينيه هذا الهول الهائل ... فأقبل فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء ... !
وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن، فإذا جيفة العنز غير بعيد، فدببن عليها وارتعين فيها، وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات، إنما يكون بتحويل باطنا لا بتحويل ظاهرها، وأن الإناء الأحمر يريك الماء محمرا والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمة كاملة من نزاعات ماعزة مأفونة، هي كمحاولة استيلاء الفيل من الماعزة ... !
قال كليلة: واعلم يا دمنة أنه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة، لما أخذها الله أخذ الذبابة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر في دواة لما كتبت بها إلا كلمة سخف.
ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة، وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على أن العالم فوضى لا نظام فيه، وأنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق, عبثا في عبث، ولا ريب أن الأنبياء قد كذبوا الناس,