للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي "أنا" وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها؟

ثم نظرت ليلة في السماء، فأبصرت نجومها تتلألأ وبينها القمر، فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضى العالم، وكذب الأديان، وعبث المصادفات، فما الإيمان بعينه إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي "أنا" في الأرض ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير١ إلى السماء؟

ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهابا وجيئة، حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها، فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره, كأنها تزاول عملا؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقر واكتنتا فيهما تأكلان من شحمها فتعظمان سمنا؛ والناس من جهلهم بالعلم الذبابي يسمونها عينين. وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقبا مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي في الحكمة رزقي "أنا" ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة؟

ثم إنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار؛ فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلا على الكفر؛ فإني "إنا" خير منها؛ "أنا" لي أجنحة وليس لها، "وأنا" خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى، ذلك الذي كان بليدا لا يتحرك فلم تجعل له الحركة جناحا٢. ثم إنها أصغت فسمعت الخنفساء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لم لم نكن جاموسا كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد؟

فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني "أنا" السابقة إلى كشف الحقيقة!

وجعلت الذبابة لا يسمع من دندنتها إلا، أنا، أنا، أنا، أنا ... من كفر إلى كفر غيره، إلى كفر غيرهما؛ حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة.


١ اليعسوب: أمير النحل والذبان ونحوهما، خيل للذبابة أن القمر أمير هذا الذباب الأبيض.
٢ إشارة إلى أن الوظيفة تخلق العضو كما زعموا.

<<  <  ج: ص:  >  >>