للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث إلا يسيرا حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي، فجلسوا بحذائنا صفا تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب، وهم يبدون في ثيابهم البيض المطراة١ كأنهم ثلاثة نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر وتعرف.

وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاث حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة ... وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسر له، تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية ...

ثم تأملتهم طويلًا؛ فإذا صرامة وشهامة، وسكينة ووداعة، وحسن سمت وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرة، لا يشبهها في حس النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة.

وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم، ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصري كالمقتنع بأنه محدود بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكانا في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر، ولا تتقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليزي كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز.

وخيل إلي والله أن رجلا من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله، وتاريخه وروح دولته، وطبيعة أرضه؛ فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقا أي الرزق كان على ما يتفق، بل رزقا إنجليزيا: أي فيه كفايته.

ورأيت شيئا عجيبا من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها.

وتبينت أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمره على أن أمة تحمله، فهو يعيش بأضعف ما فيه, والآخر في فرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمة فلا يدع في نفسه قوة ضاعفها.


١ أي المكوية؛ والكلمة العربية التي استعملت قديما في معنى "المكوجي" هي: المطري "بتشديد الراء".

<<  <  ج: ص:  >  >>