الجنس البشري، لما كان لكم أن تضعوني هذا الموضع؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا، تكاد شرارة تذهب بي وبكم معا، لأن في وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة.
ويحكم! لو أنه كان لخطيبكم شيء من الكلام الناري المضطرم، لما بقيت الخشبة في يده خشبة، وكيف يمتلئ الرجل إيمانًا بإيمانه، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب، وكلمة الحياة من الحق الواجب, وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه في يده؟
أيها المسلمون! لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم، إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم, أيها المسلمون غيروه وغيروني.
قال راوي الخبر: ولما قضيت الصلاة ماج الناس إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم؛ ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى؛ وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم.
قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم، والصبر في أجسامهم, والقناعة في نفوسهم، والفضل في سجاياهم؛ إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى, فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه؛ فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة، يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع، وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل.