قال: وخيل إلي بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف، لأن السياسة تكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر، وألا يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ هو مع ذلك نصف وعظ ... فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة، أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف ...
قال: وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة؛ واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي؛ ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني.
قال الراوي: ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين، اثنان أو ثلاثة "الشك في ثالثهم لأنه حليق اللحية". ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة؛ ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب "اللالحية", فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين، أحسبهم يحتجون بقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: ٤] ؛ وكل امرئ فإنما تبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم، أبلحية أم بلا لحية؟
وأدرت عيني في وجوههم، فإذا وقار وسمت ونور لم أر منها شيئا في وجه صاحب "اللالحية"؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعري البديع الذي ورد في بعض الأخبار، من أن لله "تعالى" ملائكة يقسمون: والذي زين بني آدم باللحي.
وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها؛ فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيًا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد، فكان هذا أبلغ رد على ذلك.
قال؛ وأنصت الشيوخ جميعًا إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة حتى كأنها صخب معركة لا فن خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض.