فقال أحد الشيوخ الفضلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء من الخبر: "تعس عبد الدنيا تعس عبد الدرهم". والله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصا وشحا؛ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: ٩] ، ولو تعارفت أموال المسلمين في الحوادث لما أنكرتهم الحوادث.
فقال آخر: وفي الحديث: "إن الله يحب إغاثة اللهفان"، ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث:"إن الله يحب إغاثة اللهفان" لأسرع العامة إلى ما يحبه الله.
قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: "إنها في أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها، فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم". فنحن في آخر الزمان، وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة.
قال الراوي: فقلت لصديق معي: قل لهذا الشيخ: ليس معنى الأثر ما فهمت، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد واقتحام، وعزيمة ومغلبة على استقلال الحياة؛ فلا يصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوي الجريء، كما نرى في أيامنا هذه، فينزلون من الكبار تلك المنزلة؛ إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم. وفي الحديث:"أمتي كالمطر: لا يدري أوله خير أم آخره".
قال الراوي: ولم يكد الصديق يحفظ عني هذا الكلام ويهم بتبليغه، حتى وقعت الصيحة في المكان؛ فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد: لا يكرر إلا زمجرة واحدة؛ وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا كل ما قيل، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة؛ وفرغ الشباب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا ومتخشعا ووضع الصندوق المختوم.
فقال أحد الشيوخ: لم يخف علينا مكانك، وقد بذلتم ما استطعتم؛ فبارك الله فيك وفي أصحابك.
وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضا ...
ثم تحركت النفس بوحي الحالة؛ فمد أولهم يده إلى جيبه، ثم دسها فيه، ثم عيَّث فيه قليلا١؛ ثم ... ثم أخرج الساعة ينظر فيها.