"أضرمي الشعلة الآدمية الأولى يا مصر، وافتحي القبر الجوي الأول، وألحدي فيه من عنصريك المسلمين والأقباط، وضعي الحياة في أساس الحياة، واستقبلي عصرك الجديد بأذان المسجد ودق الناقوس ليباركه الله، وليتلق الشعب أول طياريه بقلوب فيها روح المعركة، وأكباد عرفت مس النار؛ ولا ينظرن إلى طياراته الأول إلا بعد أن ينظر النعشين فيرى مجد الموت في سبيل الوطن، فتسطع نظراته ببريق الكبرياء، ولمعة العزيمة، وشعاع الإيمان؛ ويتألق فيها النور السماوي الذي يجعل الناس في بعض ساعاتهم وكواكب نور صلاة الشعب على موتاه الشهداء".
واستجاب القدر لصوت المجد، فالتج الظلام في وضح الصبح، وانطفأ سراج النهار في قبة الفلك، وأطبقت نواحي الجو إطباق ليلة تساقطت أركانها وأقبل الضباب يعترض اعتراض جبل عائم يتذبذب في بحر، واستأرض السحاب فتخلى عن طبيعته السماوية الرقيقة، وتذامرت العناصر على القتال يحض بعضها بعضا، وتغشت السماء بوجه الموت: كلح فاربد وانتفخ، وتكسرت فيه الغضون كل غضن كسفة ظلام، وعاد أوسع شيء أضيق شيء، فكان الفضاء كصدر المحتضر؛ ليس معه إلا عمر ساعة وأنفاسها.
وابتدرت إلى مجد الموت الطيارة المصرية الأولى؛ وكان فيها إنكليزيان يقودانها فأباها الموت، فذهبت فانتحرت أسفا وتردت متحطمة، وانسل الرجلان من مخالب الردى، وكانا في الطيارة كورقتين من النبت في فم جرادة همت تقضمهما ...
وتستبق الثانية فإذا فيها وديعة الكرم من عنصري مصر:"حجاج ودوس"١ وكان سرا من أسرار مصر اجتماعهما في مداحض الغمام ومزالقه، ليكونا هدية مصر الأولى إلى مجدها الحربي، ثم ليكونا هدية المجد إلى إحساس هذا الشعب يحس منهما العالم المنطوي له في مستقبل النصر.
واعتسفت طيارة الشهيدين طريق الفناء ومتاهة الحياة، فذهبت عنها معارف الأرض، وعميت عليها معالم السماء، وخرجت من تصريف أيدي البطلين إلى تصريف أجلهما، وأصبحت كأنها تطير في الأنفاس الباقية لهما؛ فما تتقدم ولا تتأخر؛ ولم تكن طيارة تحملهما، بل جناحا ممدودًا من رحمة الله.
١ هما فؤاد حجاج، وشهدي دوس؛ وكان في الطيارة الأخرى التي تحطمت المستر بليت، والمستر سميث.