ثم اجترها الموت إلى غور، فانحطت من الهواء جانحة كالطائر يطلب ملجأ في العاصفة، ثم انتهضت واثبة، وتمطرت منقلبة، فاشتعلت فاستعرت فأنضجت راكبيها، رحمهما الله!
وكثيرًا ما يكون منظر الحزن في الحياة هو انهماك الحياة في عمل جديد تبدع منه السرور والقوة. احتراق البطلان لتتسلم مصر في نعشيهما رمادًا لن يبني تاريخ العزة الوطنية إلا به.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.
صنعت النار الآدمية الحقيقة، ووضعت لنا الاسم البديع الذي نطلقه على طيارينا الأبطال، فلا تسموهم نسور الجو، ولكن سموهم "جمرات الجو".
صنعت نارنا الحقيقة، وأوحت إلينا أن نستبدل من أنفسنا حالة بحالة، وأن نفاجئ شعورنا الحالم فنصدمه بالآلام اليقظة المرة، وأن نغير قاعدة الحياة في التربية المصرية فلا تكون: العيش العيش، ولكن القوة القوة.
صنعت النار الحقيقة، وأثبتت لنا أن الحياة إن هي إلا أداة للحي، وليس الحي أداة للحياة، فليتصرف بها على قوانين الروح وآمالها فيسمو تسمو، ولا يدعها تتصرف على مذاهب أقدار المادة وتصاريفها فيذلها وتذله. وفي قانون الروح: لا قمية لعالم الأشياء إلا كما تصلح لنا؛ وفي قانون المادة وضغطة الحياة: كما تصلح لنا وكما نصلح لها ...
بلى، قد صنعت النار الآدمية الحقيقة، وأعطتنا قصة الحرية كاملة في معنى واحدة: وهو أن هذه الحرية لعاشقيها كأجمل الجميلات للمتنافسين عليها: جمالها متوحش، وخلاعتها مفترسة، وظرفها سفاك للدم.
فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.
وإلى السماء يا "جمرات الجو"، فإذا استويتم على السحاب، فليست الطيارة ثم طيارة، بل حقيقة حية عاملة للمجد، فلتحمل معناها المصري من بطلها المصري.
وإذا سبحتم في مهبط القدر، فليس الطيار ثم طيارًا، بل حياة عبقرية أرسلتها مصر تستنزل للحياة أقدارًا سعيدة.