للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يوما ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك، فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك: إنك مصري مستقل.

قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخطب لهين، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء ...

فضحك الباشا وقال: يا بني، هذا الإنجليزي عندنا كالشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: ٢٧] ، ووالله يا بني إني لأشد أنفة منك، وإن صدري لشجي مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا -نحن الشرقيين- قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية.

أتراك تفهم شيئا لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ إن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام: فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذ أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به، غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى.

أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان، ونسي معنى الحديث الشريف: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا". فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله: "كأنك تعيش أبدًا"؟ إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها، فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها.

هذه حكمة إسلامية دقيقة، عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها، أهم المسلمون أم نحن؟

وعلى قاعدة الانفراد انفراد كل شيء؛ فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعيا مع هذا أن يختصر الدين اختصارًا يجعله مقدارا بين مقدارين، فلا هو دين ولا هو غير دين؛ وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه؛ فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذبا على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معا.

ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها،

<<  <  ج: ص:  >  >>