للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلا، أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين ... ويكذبون في هذا أيضا فيسمونه حذاقا وبراعة "وشطارة".

وإذا عم الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجد الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونًا؟ ومن الهزل ضرب هو المباسطة بالكذب، ومنه ضرب من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما درات الحال لا تجده إلا كذبًا.

ومتى صار الكذب أصلا يعمل عليه، تقرر عند الناس أن الكلام أنما يقال ليقال فقط. أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟

ولا أضر على الأمة من هذه العقيدة -عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط- فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة، وعلى كل أحوالها، وعلى حكومتها أيضًا.

ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء، حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين، نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا.

هذه مبالغة خطرة، وأخطر ما فيها أننا بها نريد المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغة في الدلالة علينا نحن، وعلى كذب طباعنا، وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا، من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها؛ وأن لا صبر لنا، من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة؛ وأن لا شدة لنا في طلب الحق، لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق؛ وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالا ولا نخشى ما يكون من عاقبته.

وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير، أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح؛ وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة.

ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية، ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله، فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت

<<  <  ج: ص:  >  >>