الباشا ليزدلف إليه؛ فقلت في نفسي:"ما أشبه حجل الجبال١ بألوان صخرها! " هذا عالم دنيا يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان.
ثم نشر ورقة في يده وأخذ يسرد على القصيدة، وهي على روي الهاء، وتنتهي أبياتها: ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرًا -أو كما يسميه هو شعرًا- وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذي ركب أكتاف هذا العالم الديني: ها. ها. ها. ها ...
قال صاحب السر: وأدخلتهما على الباشا، فوقف المداح يمدح بقصيدته، وأخذت لحيته الوافرة تهتز في إنشاده كأنها منفضة ينفض بها الملل عن عواطف الباشا ... وكان للآخر صمت عامل في نفسه كصمت الطبيعة حين تنفطر البذرة في داخلها، إذ كانت الحاجة حاجته هو، وإنما جاء بصاحبه رافدا وظهيرًا يحمل الشمس والقمر والليث والغيث، لتتقلب الأشياء حول الممدوح فيأخذه السحر، فيكون جواب الشمس على هذه اللغة أن تضيء يوم الشيخ، وجواب القمر أن يملأ ظلامه، وجواب الليث أن يفترس عدوه، وجواب الغيث أن يهطل على أرضه.
والباشا لا يدع ظرفه ودعابته، وكان قد لمح في أشداق العالم المتشاعر أسنانا صناعية، فلما فرغ من نظمه الركيك قال له: يا أستاذ، أحسبني لا أكون إلا كاذبا إذا قلت لك: لا فض فوك.
ثم ذكر الآخر حاجته: وهي رجاؤه أن يكون عمدة القرية من ذوي قرابته لا من ذوي عداوته. فقال له الباشا: ولقريتكم أيضًا أبو جهل؟
ولما انصرفا قال لي الباشا: لأمر ما جعل هؤلاء القوم لأنفسهم زيا خاصا يتميزون به في الناس، كأن الدين باب من التحرف والتصرف، بعض آلته في ثيابه؛ فهؤلاء يسكنون الجبب والقفاطين وكأنها دواوينهم لا ثيابهم ...
قد أفهم لهذا معنى صحيحًا إذا كان كل رجل منهم محصورًا في واجبات عمله كالجندي في معاني سلاحه، فيكون التعظيم والتوقير لثوب العالم الديني
١ هذا مثل عربي، والحجل: الطائر المعروف، يكون في الجبل من لون صخره للعلة المقررة في التاريخ الطبيعي.