كأداء التحية للثوب العسكري: معناه أن في هذا الثوب عملا ساميا أوله بيع الروح وبذل النفس وترك الدنيا في سبيل المجتمع؛ هذا ثوب الموت يفرض على الحياة أن تعظمه وتجله، وثوب الدفاع تجب له الطاعة والانقياد، وثوب القوة ليس له إلا المهابة والإعزاز في الوطن.
ولكن ماذا تصنع الجبة اليوم؟ إنها تطعم صاحبها ...
أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوة عن أهل البلاد، وقد احتلت هذه المعاني وضربت وتملكت وتركت هذا العالم الديني في ثوبه كالجندي المنهزم؛ يحمل من هزيمته فضيحة ومن ثوبه فضيحة أخرى؟
أنت يا بني قد رأيت "الشيخ محمد عبده" وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل، ما كان أعجب شأنه! لكأنه -والله- سحابة مطوية على صاعقة, ولو قلت إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريق لبعض الملائكة. لأشبه أن يكون هذا قولا.
كان يزورني أحيانا فأراني مرغما على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمرًا، إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية١.
رجل نبت على أعراق فيها إبداع المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواصفه كالعطر في شجرة العطر الشذية، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيرا ما كان يتعجب من هذا أستاذه "السيد جمال الدين الأفغاني" فيسأله مندهشا: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟
لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهي ألهمته، وهي أنطقته، وهي أخرجته في قومه إعلانا غير كتمان، ومصارحة غير مخادعة، وهي جعلت فيه أسدية الأسد، وهي ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتحب، كالحلاوة في الحلوى.
هذا هو العالم الديني: لا بد أن يكون ابن القوات الروحية، لا ابن الكتب وحدها، ولا بد أن يخرج بعمله إلى الدنيا، لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع ...
وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب
١ وصفنا الشيخ "رحمه الله" في كتابنا "السحاب الأحمر" واستلهمنا روحه فصلا طويلا تجده هناك.