حكمتها وتدبيرها وحذرها، فإنها أسرعت ودفعت صاحبتها وقالت لها: انزلي -ويلك- قبل أن تقولي: ما أفره حماري.
قال: غير أني في تلك الساعة نسيت القانون الدولي وكنت في إلهام مصريتي وحدها، فنظر لي ظهورا بينا أن لا شيء أسمه القانون الحق في هذه الدنيا؛ ولكن هناك اتفاقا بين كل خضوع وكل تسلط، وهو قانون هاتين الحالتين بخصوصهما.
وأسرعت إلى الباشا فأنبأته، وأسرع الباشا فغير وجهه، وتبسط، وتهلل، وتهيأ بهذا لاستقبال القادم العزيز، كأنه أخص محبيه يتطلع إلى مؤانسته، وقد جاء يزوره في داره, ثم دخل القنصل، ولم أسمع مما دار بينهما إلا الكلمة الأولى، وهي قول الباشا: لنبدأ يا سيدي من الآخر ...
وكانت في الباشا موهبة عجيبة في اختلاب الأجانب خاصة، يديرهم بلباقة كالخاتم في إصبعه؛ حتى قال لي أحدهم: إن لهذا الباشا حاسة زائدة، لو سميت حاسة الإرضاء لكان هذا اسمها الطبيعي، وإنه يعمل بها كما يعمل المفكر بتفكيره، فهو يبتكر الأساليب الغربية التي يصعد ويهبط بها ميزان الحرارة النفيسة, وإن جليسه يكاد يشعر من مهارته في التمثيل أن في جو المكان ستار يرفع وستارًا يسدل بين الفصول.
فما لبث القنصل أن خرج بغير الوجه الذي دخل به، ولكنه عبس في وجهي أنا وتكره لي كأنه أصغر شأني؛ فازدرتني عينه، فوثبت إلى رأسه فكرة الامتيازات.
وهذه القوة الظالمة "الامتيازات"؛ لو أنها كانت قوة قاهرة نافذة، وأعين بها طفيلي ليقتحم دور الناس آمنا مطمئنا؛ لاستحي هذا الطفيلي أن يأكل بها؛ إذ تجمع عليه التطفل والمقت معا، ولو قيل لحسام بتار: إن لك امتيازا على بعض السيوف ألا تقارعك، وإنك محمي أن تنالك سطوتها إذا قارعتها, لأنف أن يسمى سيفا بهذا، فإن القوة الظالمة التي يعيرونه إياها، ليست إلا مهانة لشرف القوة العادلة التي هي فيه.
قال صاحب السر: ووصفت للباشا هيئة القنصل التي انصرف بها، وتقطيبه في وجهي، وقلت له: إن الذبابة وقعت في صحفتي أنا من هذه الوليمة ... فضحك بملء فيه، ثم قال: