وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة، فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله، وقال لي مبتدئًا: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين؛ فأخلاقنا تظهر دائما في العمل، وأخلاقكم تظهر دائما في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة، وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى أنه لو خسر المصري ألف دينار، ثم أعلن أنها مائة فقط، وصدق الناس أنها مائة؛ لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة ...
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما، ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي، فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إلي، وكأنه يتأمل من أين يذبحني ...
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذنبا كذيل الهر، ثم يمسكها منه فإذا هي تعض وتتلوى ...
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين، فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها! إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه, إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوروبية، أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة "الأقليات"، وأجريتموها في لغتكم السياسية، لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلا آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها، إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}[النساء: ١٣٥] .
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلا صارمًا، وحقا محضا لا يميز بشيء ألبته، لا ذات النفس التي فيها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم إذا كان هذا، فأين في هذا العدل محل الظلم؟