الشرقية كالمرأة المطلقة ... فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوروبا، ولكني لم أشتر منها دماغي.
وكلمته أستخرج ما عنده؛ فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية؛ يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه.
وكان جريئا في كلامه مع الباشا: يطرد القول حيث شاء حقا وباطلا، ثم لا إسناد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأي فلان، كأن في رأسه عقلا شحاذًا ... ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له، فخجله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك؛ تحتاج إلى رأي فيلسوف أوروبي ... وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره.
ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالمًا، وهو صعلوك علمي ... وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين.
إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه، ليجعل له ثبات الحقيقة فيظن حقيقة، كأن خضخضة الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج؛ وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين، أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئا، فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم ... وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كان حقيقة مدة سنة ...
هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية، كالبعد بين العالم والجاهل، ولو حققوا لرأوه بعدا في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور، وبين التقوى وما أشبه التقوى.
زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي، كأنه باق في أمس لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن، ثم خرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها، ثم ادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها١.
وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العلمي، لما وجدت في
١ الرابعة التي يستلزمها هذا السياق المنطقي: هي تجرد الأمة من الدين، وذلك ما يعمل له بعض الصعاليك العلميين.