أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له: املأها لي من آراء الفلاسفة.
يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه؛ بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم، وألا يناقض الهداية؛ {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة: ١٧٠] , وفي الآية الأخرى:{قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[المائدة: ١٠٤] , {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[لقمان: ٢١] , وفي الرابعة:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}[الزخرف: ٢٣، ٢٤] .
فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله:"حسبنا"، وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله "نتبع"، وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معا في العلم والعقل والهداية، أي في آثارها من العلوم المخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي، وهو قوله في كل آية، أولو، أولو. لم يغيرها؛ بل كررها بلفظها أربع مرات.
فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم، ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن؛ إذ كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس؛ فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة.
إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم قسمين، يقول أحدهما: أريد أن أكون. ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطا بالكمال الإنساني للجنس.
وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي، فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس، إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ "بالأهدى" في اجتماع أمة من الأمم، إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.