معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون: الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسلم ينتصب قائما ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.
فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حذرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذن السياسة الإنجليزية "كالرديو" لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانصفق عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ ... وساح في البلاد سياحة طويلة، وكأنه لم يسافر إلا من شفة أبي الهول السفلى إلى شفته العليا.
قال صاحب السر: وجاء الورد لمقابلة الباشا، فمر علي مرور كتاب مقفل: لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطويا على زوبعة، وترى له قوتين تحس من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحلية أقوى مواهبه.
فلما لقيت الباشا من الغد، سألني: كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة؛ ما يتمناها أحد ولكنها تجيء.
فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا -نحن الشرقيين- كل يوم ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية, وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف.
ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحيانًا؛ فإن صمت الأمة المصرية عن جواب "ملنر" كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم.
وقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي، فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة: كلاهما مستعلن يخاف ويتقي، وكلاهما كلمة محرمة.
أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها البلاد على معنى الرفض، وأصبح كل فرد يعرف محله من الكل،