وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية، الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟
إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس "ملنر"، لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.
والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى طريقة الحل أيضا، وقد كان "ملنر" هو أول أساتذتنا في تعليمنا الطريقة.
وهذا الدرس يجب أن يكون درسًا للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلونها ويعقدونها في نص واحد؛ ويثبت الكلام الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويثبت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة.
وفي السياسة الأوروبية موافقات دميمة كالنساء المشوهات، فإذا عرضوا واحدة منها على من يريدون أن يزوجوه ... فأباها وفتح لها عينيه بكل ما فيهما من قوة الإبصار، أعفوه منها وقالوا له: سنأتيك بالجميلة، ثم يذهبون بها إلى معهد التجميل اللغوي، فيصقلونها ويصبغونها، ويضعون لها أحمر السياسة وأبيضها، ثم يعرضونها جديدة على صاحبهم ذاك، وما صنعوا ما به صارت الدميمة غير دميمة، ولكن ما به رجع غير الأعمى كالأعمى.
ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ، حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة، هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيرًا ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها، وهي في السياسة ألفاظ حبالى، تستكمل حملها مدة ثم تلد.
ولهم من بعض الكلمات السياسية، كما لهم من بعض الرجال السياسيين؛ فيكون الرجل من دهاتهم رجلا كالناس، وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظا كاللغة، وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة.
ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن، وسياستنا تخرج ألفاظًا كالقطن: لا توضع في المغزل إلا مدت وتحولت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير، لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص، أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟
أما إنه لو كان كتابا يألف من مليون كلمة، لذهبت كلها عبثا وباطلا وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي ...