للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما انصرف الرجل قال الباشا: أف لهذا وأمثال هذا! أف لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يلقبونه "حضرة صاحب السعادة"، ولأشرف منه -والله- رجل قروي ساذج يكون لقبه "حضرة صاحب الجاموسة" ... نعم إن الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلا، فإنه جاهل وطنية.

ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن؛ فما هو عمل حضرة "صاحب اللسان المرقع" هذا؟ إن عمله أن يعلن برطانته الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهينة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه؛ إذ لا يظهر الروح السياسي للغة ما، إلا في الحرص عليها وتقديمها على سواها.

كان الواجب على مثل هذا ألا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجب أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضها، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه؛ فهو على أنه "حضرة صاحب سعادة"، لا ينزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة.

أتدري ما هو سر هؤلاء الكبراء وهؤلاء السراة الذين يطمطمون إذا تكلموا فيما بينهم؟ أنهم عندنا طبقات:

أما واحدة: فإنهم يصنعون هذا الصنيع منجذبين إلى أصل راسخ في طباعهم، مما تركه الظم والاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي؛ فهم يبدون جوهر نفوسهم لأعينهم وأعين الناس، كأنه اللغة الأجنبية فيما بينهم علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب واستمرار ذلك الحمق في الدم ... وهم بها يتنبلون.

وأما طبقه، فإنهم يتكلفون هذا مما في نفوسهم من طباع أحدثها النفاق والخضوع والذل السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي؛ فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة، وهم بها يتمجدون.

وأما جماعة، فإنهم يتعمدون هذا يريدون به عيب اللغة العربية وتهجينها، إذ اتخذوا من عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها ومذهبا انتسبوا إليه، وفيهم العالم بعلوم أوروبا، والأديب بأدب أوروبا؛ وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي، إذ جعل هذه اللغة حكومة باقية في بلادهم مع كل حكومة وفوق كل حكومة؛ وهم يزدرون هذا الدين ويسقطون عن أنفسهم كل واجباته. وهؤلاء قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، إذ يغلون في مصريتهم غلوا قبيحا ينتهي بهم إلى سفه الآراء، وخفة الأحلام، وطيش النزعات، فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه ولغته. وما أرى الواحد منهم إلا قد غطى

<<  <  ج: ص:  >  >>