للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول: إني نابغة قرن خروف ...

فقلت في نفسي: حمأة مدت بماء١، وإن هذه الوساوس لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه؛ والأفكار في ذهنه مجتمعه مختلطة مسترسلة كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.

وسكت وأعرضت عنه؛ فجعل طائفه يعتريه، وكأن السكوت قد سلط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمان الطرق بالمجنون، لا يزالون به حتى يحردوه ويفقدوه البقية من صبره وعقله معا. فغضب "نابغة القرن العشرين" ونقله الغضب إلى حالة زمهرت فيها عيناه٢، وكلح وجهه حتى خفت أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعللت بسؤاله: ألك إخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة؟

قال: إن له أخا يعذبه، ويوقع به ضربا، ويعلله بالسلاسل، ويشده "بأمراس كتان إلى صم جندل"، وأنه أنزل به العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم.

قلت: فأنت في حاجة إلى راحة، ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه.

قال: إني منصرف وسأجلس في ندي كذا٣ "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة".

قلت: فهذا قرش تدفعه ثمنا لها، فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندى، فالمكان ههنا كثير الضجيج والحركة. واستوفزت للقيام؛ ولكنه لم يتحلحل من مجلسه.

ثم قال: أراك الآن مستبصرًا أني "نابغة القرن العشرين" بعينه.

قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معًا ...

قال: لا. لا؛ إنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينه ونفسه وذاته. "أي أنا نابغة القرن العشرين بعينه ونفسه وذاته، فليس غيري نابغة القرن العشرين".

وكادت نفسي تخرج غيظا، ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى


١ هذا مثل في معنى زاد الطين بلة، والحمأة إذا مدها الماء زادت واتسعت.
٢ أي لمعت غضبا.
٣ نحن نستعمل الندي لمكان القهوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>