الصدقة؛ وقلت: إن أدباء المجانين كثيرًا ما يتفق لهم الإبداع الطريف إذا عللوا شيئا، كذلك القاص الذي كان يقص على العامة سيرة يوسف -عليه السلام- فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.
فقلت للمجنون: فما العلة عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وأنفه وفمه ويده ورجله؟
فنظر نظرة في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاته ودراهمه. "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان".
قلت: هذه هي أجرة السيارة وصحبتك السلامة، ونهضت واقفًا؛ ولكنه لم يتحرك.
ثم قال: إنك لم تعرف بعد "أني أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر؛ وأني في الخطابة قس بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، وأني صخر لا ينفجر ... يابس لا ينعصر، لست كالحجاج بل كعمر".
قلت: هذا شيء يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها، فقد آمنت أنك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسل.
قال: والفلسفة؟
قلت: والفلسفة وكل معقول ومنقول؛ وقد انتهينا على ذلك.
قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممرورًا "كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكري أو لذكائي الطبيعي، وهو الأصح ... فبين لهذه الجرائد أني خرجت، وأني سأطبع الأدب بطابع جديد".
قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال:"فاجعلني رسالة وراسلها عني أو أكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية؛ فضلا عن أني كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ, وهذا قليل من كثير، فهل أعول عليك في صلتي بالجرائد أو لا؟ ".
قلت: إنك تعرفهم ويعرفونك، وقد بلوتهم وبلوا منك، فلست في حاجة إلي عندهم.