يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه، ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته.
وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ، وأجمع ألا يدع هذا المتن أو يحفظه، كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء من البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر ...
وجاء "ا. ش" فقلت له، وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين.
قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته؟
فقلت: للمجنون: أجبه أنت. فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون؟ قال: لا.
قال: فإن هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين ... فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته.
قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها؛ فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة؟
فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيرًا نظر إلى اللاشيء.
ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل ... وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة؟
قلت للآخر: أكذلك؟
قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم: مجانين. ولو أدركوكم لقالوا: شياطين.
فضحك الأول وقال: إنه تلميذي.
قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي، ولكنه حين ينسى لا يذكره غيري ...
قلت: لا غرو "فمما حفظناه" عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل ...
فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله، أيذكرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لا