يمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟ صدق -والله- من قال: عدو عاقل خير, خير, خير, فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنا ذا قد ذكرتك من نسيان، وها أنت ذا رأيت.
فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر ... عدو عاقل خير، خير، خير، خير من مجنون جاهل ...
ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل، إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية ...
ولم أكن أعرف أن "نابغة القرن العشرين" من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى.
وبينا أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثيلي من الحوار بين هذين المجنونين١، إذ قال "نابغة القرن العشرين": صه، إن جرس "التلفون" يدق.
قال "ا. ش": لا أسمع صوتا، وليس ههنا "تلفون".
فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر؛ والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا، وأراك الآن تنكر "تلفونه" ...
قال "ا. ش": وأين "التلفون" وهذه هي الغرفة بأعيننا؟ فضحك "نابغة القرن العشرين" وقال: صه -ويحك- لقد خلطت علي؛ إن الجرس يدق مرة أخرى، وأنا لا أريد أن أكلمها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك ...