قال:"مما حفظناه": أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلف، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق. كما فعلت أنت الساعة، تقول: هاء، هوء، هيء ...
فتغير وجه "النابغة"، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه، وقال: أيها المجنون، لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون ... لا نجوت إن نجوت مني!
فأسرع ا. ش، وأمسك به؛ واعترض من دونه س. ع، وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم.
قال: ولكن -ويحه- كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلا هذا؟ كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق، وقد أوحده الله في القرن العشرين؟ لهممت -والله- أن أكسر الذي فيه عيناه؛ فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين ...
قلت: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه؛ ففي الحديث الشريف:"ليس من أحد إلا وفيه حمقة، فبها يعيش". والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيما عاقلا؛ وما يقبل الإنسان على شيء من لذاتها إلا هو مقبل على شيء من حماقاته، وأمتع اللذة ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة، أليس يخيل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضر فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خلقت في كوكب وهبطت منه إلى كوكبنا هذا، فما فيك للأرض ولا فيها لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع؟
قال: بلى.
قلت: فهذا القليل هو الحمقة التي بها تعيش، وهو أرضية الأرض فيك؛ أما سماوية السماء فبعيدة لا تحتملها طبيعة الأرض؛ ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذي غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوسا أو محولا أو معدولا به؛ ولعل هذا أصح تفسير للحديث الشريف:"أكثر أهل الجنة البله".
قال المجنون الآخر:"مما حفظناه": أكثر أهل الجنة البله.