مر بك من أمثلته، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه! "، وهذا كلام أبلغ ما أنت واجد من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسة من النور كبت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب....
ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذكّره ذنوبه أن يحس بحركة جبل يهمُّ أن ينقلع فيميل عليه، أما الفاجر فيسمعه يذكّره ذنوبه فإذا هي في خياله نقط سود تمر مرور الذباب، ليس منه إلا الحس به، كما يحس من يضرب على أنفه برجل ذبابة.. وجعل الذباب يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح، فإذا وقع على قصبة الأنف لم يكد يقف ومر مروره.
الكون في نظر النبي صلى الله عليه وسلم آية الحكمة لا آية الفن، ومنظر المستيقن لا منظر المتخيل، ومادة العبودية لله لا مادة التأله للإنسان، وبذلك حرم الإسلام أشياء وكره أشياء لا يكون الفن بغيرها فنًا، في ضروب من الشعر والتصوير والموسيقى والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا، وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعة، ولذة وألمًا؛ وهذه كلها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حين أن الفن لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكل، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتقاض، وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحد.
ثم إن للفن ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها ... أي هو أشدها زهوًا وإشراقًا وجمالًا في التصوير الفني لكل ما في المرأة والحب والجمال وشهوات النفس، ولسنا ننكر أن الحياة القوية حين تمازجها هذه الفنون تكسب مرحًا ونشاطًا ويكون لها رونق، وفيها متاع؛ ولكن الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تحتسي خمرها ... فلها بعد من عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة، كما وقع في أطوار كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يعرض من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها وفن حياتها، بل الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقية بأحزانها وفن هلاكها، فالإسلام فيما حرم وكره من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يقر صورة من صور انتحارها.