للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن كان أكبر عمله إنشاء الحقائق الإنسانية وتقريرها شريعة وعاطفة وأعمالًا، فلا جرم كان فنه غير الذي أكبر عمله تمويه تلك الحقائق وزخرفتها؛ ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتخف بالواقع منها على النفس خفة الكذب في ساعة تصديقه وهذا هو أكبر عمل الشعر.

وههنا سر دقيق لا يتم كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقه من باطله قلنا آنفًا إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، ومعنى هذا أنه لا يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من الناس، فأحكم حكماء الدنيا لا يستطيع أن يتبين جزءًا صغيرًا من الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذرة مكبرة إلى ما لا ينتهي ولا يحد، وليست النبوة شيئًا غير الاتصال بالسر.

والحاضر الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غير؛ لأنه يتحول ويفنى، فهو من الزيغ الذي يعتري النفس، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية، ولهذا كان طابع الله على نبينا صلى الله عليه وسلم هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة، فهو من الناس ولكنه متخلق بأخلاق الله سبحانه، وله في هذا الباب ما ليس لأحد ولا يطيقه أحد، ويجب على من يقرأ سيرته وشمائله وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنه سيرى حينئذ كأنه يدرسها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقية العليا إلا فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم كان إنسانًا، وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطلق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره صلى الله عليه وسلم موضوعة وضعًا إلهيًّا كأنها صفات كوَّنها الله وعلقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة.

إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض الإنسان نفسه، فهو كما يملأ معدته ويتأنق في الاختيار لها، يريد من كل ذلك أن يملأ شخصه على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع معدته.. وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تحد بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكل من كانت حدوده الإنسانية جسمه ولذات جسمه، فهو في مقدار هذا الكون كالميت المحدود من الأرض كلها بقبره وتراب

<<  <  ج: ص:  >  >>