قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلن يعرف الكون وأسراره؛ وإذا فقد هذا فهو الحاضر الضيق المشوه المكذوب، ومن ثم ففنه شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان ملبسًا عليه، وشهوة خياله، وإن كان التمويه والزور والحاضر الضيق المشوه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالدنيا" فإذا اتسع الإنسان لروحه وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في أعماله، وتخطى حدود جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كله هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالآخرة"؛ فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفن والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته:"من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة؛ ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له".
وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بما وصفنا لك ووجهتها على ذلك التأويل، رأيت عجائب معانيها لا تنقضي، وأدركت سر قوله صلى الله عليه وسلم:"إني على علم من الله علمنيه" فاتساع الذات الإنسانية وممادَّتها لحقائق الكون، يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمعًا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنى لا مادة؛ ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس، وكان له كنز في الشرق وكنز في المغرب، لما بلغ شيئًا قليلًا من لذة هذا المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضة التي يهلك الناس في تحصيلها وليست إلا ضرورة صغيرة، قد تكون في ثوب ولقيمات ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكة الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسكه كله ولا يمسك منه شيئًا، ووضع بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا؛ وإذا كان المنخل متخذًا على الطريقة التي صنع بها، ففقره ولا جرم معلق عليه من ذات تركيبه. "أفهمت"؟
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم متساوقًا مع الحقيقة، متصلًا بها، محدودًا بربه لا بنفسه، كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يلتفت هو إليه بطبيعته؛ ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعم والمشرب، وما داخل الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المجرى، فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم