للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، فهم يتبعونهم، ويتأسون بهم، ويمنحونهم الطاعة، وينزلون على حكمهم، ويلتمسون في سيرتهم النفس لمشكلات النفس، ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة؛ وكان غنى العالم الديني شيئًا غير المال، بل شيئًا أعظم من المال؛ إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقر؛ وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو، وفيها كل سلطان الخير والشر؛ لأن فيها كل النزعات الاستقلالية؛ ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها.

وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها؛ فيجب عليهم أن يحققوا وجودهم، وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة، لا طلابًا يرتزقون بالعلم.

أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع ... وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها؟

لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه؛ ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر، وقانونها العملي الذي فيها سعادتها وقوتها.

ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئًا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئًا في عمله لهذه القيادة، آخذًا بأسباب هذا العمل، ملحًا في طلب هذه الأسباب، مُصِرًّا على هذا الطلب؛ وكل هذا يكون عبثًا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة؛ لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف؛ والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية، مطاع بحكمه فيها، محبوب بطاعتها له.

<<  <  ج: ص:  >  >>