أقوى من العلم؛ إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها؛ ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلًا فاضلًا بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل؛ ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.
وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الأرض؛ فقد أنشأ يعمل، ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروسًا أخرى تعمل عملًا آخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم، ثم تكون حوله رذائله تُعَلِّم تعليمًا آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه، وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه.
قال أبو علي: وقدمت إلى مصر؛ لأرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون، فلما لقيته لقيت رجلًا من تلاميذ شيخنا الجنيد، يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة، والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة؛ وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسبًا شابكًا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه؛ لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر؛ فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس، وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع.
ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض: تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته، فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق.
وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد وكبار الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم -كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى.