للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو علي: وهممت مرة أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت: أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري: "لا أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيئ في نفسي كلامًا أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيها الدين، وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فاذهب فاشتر رطلًا منها وائتني به حتى أدعو لك!

فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة، وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي! ثم إنه التفت إلي وقال: لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لأكلت نفسها وذوت.

قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء، والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق -كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري* ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفًا فيها الكبير والصغير؛ فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون، فمن أجله زعمت جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهِبْته فلم أسأله. قال: تعال أحدثك الحديث.

كان أحمد بن طولون** من جارية تركية، وكان طولون أبوه مملوكًا حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفًا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك؛ فولد أحمد في منصب ذلة تستظهر بالطغيان، وكانت هاتان طبيعته إلى آخر عمره، فذهب بهمته مذهبًا بعيدًا، ونشأ من أول أمره على أن يتم هذا النقص ويكون أكبر من أصله، فطلب الفروسية والعلم والحديث، وصحب الزهاد وأهل الورع، وتميز على الأتراك وطمح إلى المعالي، وظل يرمي بنفسه، وهو


* توفي سنة٣٢٢.
** كانت إمارة ابن طولون نحو ٢٦ سنة، وتوفي سنة ٢٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>