للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في ذلك يكبر ولا يزال يكبر، كأنما يريد أن ينقطع من أصله ويلتحق بالأمراء، فلما التحق بهم ظل يكبر؛ ليلحق بالملوك، فلما بلغ هؤلاء كانت نيته على ما يعلم الله.

قال: وكان عقله من أثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فله يد مع الملائكة ويده الأخرى مع الشياطين، فهو الذي بنى المارستان وأنفق عليه وأقام فيه الأطباء، وشرط إذا جيء بالعليل أن تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابًا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، ولم يكن هذا قبل إمارته؛ وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر؛ وهو صاحب يوم الصدقة؛ يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليه، ومراتبه لذلك في كل أسبوع ثلاث آلاف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس، ولكل مسكين أربعة أرغفة يكون في اثنين منها فالوذج* وفي الآخرين من القدور، وينادي: من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر! وتفتح الأبواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته؛ وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار؛ واقتدى به ابنه خمارويه، فأنشأ بعده مطبخ العامة** ينفق عليه ثلاثة وعشرين ألف دينار كل شهر.

وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغداد وعلمائها في مدة ولايته ألف ومائتي ألف دينار***، وكان كثير التلاوة للقرآن، وقد اتخذ حجرة بقربه في القصر وضع فيها رجالًا سماهم بالمكبرين، يتعاقبون الليل نوبًا يكبرون ويسبحون، ويحمدون ويهللون، ويقرءون القرآن تطويبًا، وينشدون قصائد الزهد، ويؤذنون أوقات الأذان؛ وهو الذي فتح أنطاكية في سنة خمس وستين ومائتين، ثم مضى إلى طرسوس كأنه يريد فتحها، فلما نابذه أهلها وقاتلهم أمر أصحابه أن ينهزموا عنها؛ ليبلغ ذلك طاغية الروم فيعلم أن جيوش ابن طولون على كثرتها وشدتها لم تقم لأهل طرسوس، فيكون بهذا كأنه قاتله وصده عن بلد من بلاد الإسلام، ويجعل هذا الخبر كالجيش في تلك الناحية!

ومع كل ذلك فإنه كان رجلًا طائش السيف، يجور ويعسف، قد أحصى من


* نوع من الحلوى، وهو ما يسميه العامة "البالوظة".
** هذا هو الأصل في مطعم الشعب.
*** الدينار نصف جنيه مصري فعدة ذلك مليون ومائة ألف جنيه، صدقاته على بغداد وحدها رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>