قتلهم صبرًا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفًا؛ وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة. وقال له: غرك قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرقت! ثم حبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مدة ولايته القضاء، فكانت عشرة آلاف دينار، قيل إنها وجدت في بيت بكار بختمها لم يمسها زهدًا وتورعًا.
ولما ذهب شيخك أبو الحسن بعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، طاش عقله فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد..
قال: وكنت حاضرًا أمرهم ذلك اليوم، فجيء بالأسد من قصر ابنه خمارويه وكان خمارويه هذا مشغوفًا بالصيد، لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن وادٍ إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم، فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم.
وكان الأسد الذي اختاره للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيمًا، ضاربًا، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراسًا، فراسًا، أهرت الشدق يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجًا من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله!
وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيرًا تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة!
ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين؛ ورأيناه على ذلك ساكنًا مطرقًا لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.
ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته، فأقعى على ذنبه، ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقا ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله!