نعم يا بني، إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة "اثنان واثنان أربعة"، لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها؛ وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل.
قال الأستاذ "م": وكيف ذلك؟
قال العجوز: زعموا أن مغفلًا كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يومًا في بعض شأنه إلى نار، ولم تكن امرأته في دارها فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطبًا فدخن ولم يشتعل، ففكر المغفل قليلًا ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته ... وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها!
قال الأستاذ "م": إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحدًا مرتين.
لقد قرأت يا بني كثيرًا فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئًا ذا قيمة؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم، وما كان جيدًا فهو كالنفائس في ملك اللص: لها اعتباران، إن كان أحدهما عند مقتنيها ... فالآخر عند القاضي*.
كلا أيها اللص، لن تسمى مالكًا بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك.
يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود، إلى آخره وإلى آخرها ... فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوته الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة؛ إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر
* في كتابنا "تحت راية القرآن" كلام كثير عن التجديد والمجددين، وما نراه من ذلك حقًا وما نراه باطلًا.