للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما هو فيه لا على ما كان فيه؛ والفرف بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمل أعضاؤه، فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها، ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها؛ أما الحاضر، أما الجسم الهرم، فهو يشعر أنه يحمل أعضاءه كلها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر.. وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول: تفارقني وأفارقك*.

فتململ الأستاذ "م" وقال: أُفٍّ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية؛ أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهرًا فقط كعمشوش العنقود** بعد ذهاب الحب منه، يقول: كان هنا وكان هنا؟

ألا فاعلم يا "ن" أن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها؛ قد قيل لبعض أهل هذا الشأن وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقال: سلوا العلة عني كيف تجدني.

وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمة بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضي ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه وتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسي أن الحياة ردته طفلاً كالطفل، أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال والذي في الكون، وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر.

وما أصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: "إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط". فهذه في قاعدة الحياة: لا تعاملك الحياة بما تملك من


١ في الحديث الشريف: إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض، تقول: عليك السلام، تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة.
٢ هو ما يبقى من العنقود بعد أكل ما فيه من الحب.

<<  <  ج: ص:  >  >>