نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقة ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد؛ وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئًا معنويًّا من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها، ومن الأسرار التي فيها، لا شيئًا ماديًّا من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المثقلة عليها.
فأطرق العجوز "ن" قليلًا ثم قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}[مريم: ٤] ، ألا ما أحكم هذه الآية! فوالله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجف وهزال وإعياء؛ وأنه ليس قائمًا في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخل به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيها عملها، فأخذ يتفتت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه آخر طبقاته؟
قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغة من نوابغ التصوير في زمننا هذا تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبه صورة وألوانًا، لا أحرفًا وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟
قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماء تعلق سحابها كثيفًا متراكبًا بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعة كضوء الشمعة في فتق فن فتوق السحاب، ثم يرسل في الصورة ريحًا ياردة هو جاء يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالًا ونساء يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى ... وهم جميعًا في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعًا من المجددين.
ثم يرسم يا بني في آخرهم "على بعد منهم" عمك العجوز "ن"، يرسمه كما تراه منحل القوة منحني الصلب، مرعشًا متزلزلًا متضعضعًا؛ قد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتيزم..