ثم يصوره وقد وقف هناك ساهمًا كئيبًا، رافعًا رأسه ينظر إلى السماء.
قال المحدث: وضحكنا جميعًا، ثم قال الأستاذ "م": لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فإن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وإن فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة؛ والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته، تظهرها للدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ.
قال "ن": أكذلك هو يا أستاذ؟
قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدبة من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.
قال العجوز "ن": آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احترامًا للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية، وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئًا غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع.
قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدية من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى.
قال العجوز "ن": آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها إنهم يرونه احترامًا للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية. وما الأشياخ الهرمى إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئًا غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع.
قال الأستاذ: إنما أنت دائمًا في حديث نفسك، ولو كنت نهرًا يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض.
قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا، ترد علي وأرد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي.
قال "م": صرح وبيِّن؛ فما فهمنا شيئًا.
قال العجوز: هذا كلام قلته قديمًا في حادثة عجيبة، فقد رفعت إلي ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دجاجة؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق، وقامت البينة عليه ووجب الحكم؛ فقلت له: أيها الشيخ، ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصًا؟
قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: ما تستحي أن تجوع؟
فورد علي من جوابه ما حيرني، فقلت له: وإذا جعلت أما تستحي أن تسرق؟ قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: وإذا جعلت أما تستحيي أن تأكل؟
فكانت هذه أشد علي، فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حرامًا؟
فقال: يا سيدي القاضي، إنك إذا نظرت إلي محتاجًا لا أجد شيئًا، لم ترني سارقًا حين وجدت شيئًا.