فأقحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي: لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولًا يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة، فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين.
قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري، إذ ما برح يديرني وأديره عن "كاترينا ومرغريت"، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية "كاترينا" وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلًا لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين؟
وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالًا ولا عرفت لها خطرًا؛ فاكفهر القاضي العجوز وتربد وجهه غضبًا، وقال: يا بغيض! أحسبتني كنت قائلًا لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي ... ؟
وغضب الأستاذ "م": وقال: ويحك! أهذا من أدبكم الجديد الذي تأديتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم..؟ أما إني لأعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي، ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرة كل الحرية إلا وهي أحيانًا سفيهة كل السفاهة، كهذه القولة التي نطقت بها.
لقد كان الناس في زمننا الماضي أناسًا على حدة، وكانت الآداب حالات عقلية ثابتة لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس؛ تجهد أن تربي بنتا على غير طريقتها!
قال المحدث: فلجلجت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز "ن" قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعة حرية الفكر، كما تمت من قبل في ذلك الواعظ* المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا: فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم
* هو أبو كعب القاص، ذكره الجاحظ في الحيوان وقال إنه كان يقص كل أربعاء في مسجد عتاب بالبصرة.