رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا قد أصبحت مخمورًا ...
هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم أنه صريح غير منافق ... وكان يكون هذا قولًا في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائمًا في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح؛ إذ لا يجب شيء ما دام مذهبها الإطلاق والحرية.
كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول "كن وإن لم يكن إلا جهله؛ ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع، أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة! ويحسبون أنهم يحملون المجتمع، فإنهم ليحملونه، ولكن على طريقة البراغيث في جناح النسر.
قال "م": وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمنًا، ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه، فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو؟..
أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرة من البعر كانت معلمة في مدرسة.
قال "م": وكيف ذلك؟
قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتابًا أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهد ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق؛ قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألف مرة؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألف مرة فكيف يمكن أن يبعره الكبش؟....
قال الأستاذ "م": هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة!
قال "ن": وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة "رجل" قد تخنثت، وكلمة "شاب" قد تأنثت، وكلمة "عفيفة" قد تدنست، وكلمة "حياء" قد تنجست؛ والزمن