الوضوح، المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من معناه، المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف في تخيل الفكرة!
هو العهد الذي من أخص خصائصه أن تعمل، فيكون العمل في نفسه عملًا ويكون في نفسك لذة.
في أوراقي تلك بحثت عن قصة عنوانها "الدرس الأول في علبة كبريت" كتبتها في سنة١٩٠٥، وأنا لا أدري يومئذ أنها قصة يسبح في جوها قدر روائي عجيب، سيأتي بعد ثلاثين سنة فيكتب فيها السطر الأخير الذي تتم به فلسفة معناها.
وها أنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غضًا لم يصلب، وكان كالغصن تميل به النسمة، على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل، بلاغة فرحه أو بلاغة حزنه؛ وهذه هي القصة:
"عبد الرحمن عبد الرحيم" غلام فلاح، قد شهد من هذه الدنيا تسعة أعوام، مرت به كما يمر الزمن على ميت؛ لا تزيده حياة الأحياء إلا إهمالًا، فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين وانتزعوا من شملهم فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة، وتضيق لهم فيها وتوسع.
وهيأت الطبيعة منه إنسانًا حيوانيًا، لا يبلغ أشده حتى يغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة، ويستخلص قوته كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة، فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل الإنسان عن إنسانيته، نزلت به إلى العالم الحيواني ووصلته بما فيه من الشر والدناءة، ثم لا تترك عملها حتى يتحول هو إليها.
وألف "عبد الرحمن" في بلده حانوت رجل فقير، يستغني بالبيع عن التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلام يكثر الوقوف عنده، وكان يطعم من صاحبه أحيانًا كرزق الطير، فتاتًا وبقايا؛ إذ كان الغلام شحاذًا، وكان صاحب الحانوت لا يرتفع عن الشحاذة إلا بمنزلة تجعل الناس يتصدقون عليه بالشراء من هناته التي يسميها بضاعة: كالخيط، والإبرة، والكبريت والملح، وغزال للولد، وكحل للصبايا، ونشوق للعجائز، ونسخة الشيخ الشعراني، وما لف لفها مما يصمد ثمنه من كسور المليم، إلى المليم وكسوره!
وتغفله الغلام مرة وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت، فالتقطته "علبة كبريت"