كان الفرق كل الفرق بين أن يسرقها وأن يشتريها -نصف مليم؛ ولكن من له "بالعشرين الخردة" وهي عند مثله دينار من الذهب يرن رنينًا ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية؟
وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسكن رعشة يده من هول الإثم، ولكن الغلام كان طبيعيًّا ولم يكن فيسلوفًا، ولذلك رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها، وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هي "مد اليد" أخطأت أم أصابت، وجاءت بالغالي أو جاءت بالرخيص؛ فضم أصابعه على العلبة وانتزعها، وترك في مكانها فضيلة الأمانة التي لم يعرف له الناس قيمتها فهانت كذلك على نفسه وانطلق وهي تناديه:
أيها الغلام، أتدفع ثمن علبة الكبريت سنتين من عمرك؟ وهلا خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟
وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث لا يشعر، فضرب قلبه ضربات من الخوف، ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلام مرة أخرى، ثم أمعن في الفرار وترك الأمانة تناديه:
أيها الغلام، إن لك في الآخرة نارًا لا توقد بهذا الكبريت، ولك في الدنيا سجن كهذه العلبة، فالعب العب ما دام الناس قد أهملوك! العب بالثقات الذي في يدك فيسمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك في أعمار الناس دخانًا ونارًا؛ وستكون أيامك أعوادًا كهذا الكبريت: تشتعل في الدنيا وتحرق.
وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة، خيلت له في شعرها أن جدارًا انقض عليه، وتلتها جملة من قوافي الصفع جلجلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدي، فما أحس الغلام التعس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده في جلد وجهه الخشن!
وذهبوا به إلى "دوار" العمدة يقضي فيه الليل ثم يصبح على رحلة إلى المركز والنيابة، وانطرح المسكين منتظرًا حكم الصباح، مؤملًا في عقله الصغير ألا يفصح