النهار حتى يكون "سيدنا عزرائيل" قد طمس الجريمة وشهودها، ثم أغفى مطمئنًا إلى ملك الموت وأنه قد أخذ في عمله بجد، وأيقن عند نفسه أن سيشحذ في الخميس مما يوزع في المقبرة صدقة على أرواح العمدة، وصاحب الحانوت، والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المراكز ... وكيف يشك في أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر ... !
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم بذلك القانون الذي يصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سبحة؛ ليظهر بها مظهر الصالحين؛ ولم يفهموه شيئًا ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعد جرائمك على هذه السبحة؛ لتعرف كم تبلغ!
كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة، وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يميز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقصارى ما بلغ -أن خيال هذا الغلام ألف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطؤوا في فهمها وتوجيهها ... ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر.
وانتهى "عبد الرحمن" إلى المحكمة، فقضت بسجنه في "إصلاحية الأحداث" مدة سنتين، واستأنف له بعض أهل الخير في بلدة؛ صدقة واحتسابًا؛ إذ لم يكف الاستئناف إلا كناية ورقة؛ فلما مثل الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محامٍ يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محامٍ شيطاني يتكلم بكلام عجيب، هو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخرية عمل الشيطان من عمل القاضي..!
سأله الرئيس:"ما اسمك؟ "
- "اسمي عبده، ولكن العمدة يسميني: يابن الكلب!.
- "ما سنك؟ "
- "أبويا هو اللي كان سنان"*
- "عمرك إيه؟ "
- "عمري؟ عمري ما عملت شقاوة! "
* كان أبو الغلام سنانًا، ومثل هذا القدر من العامية في القصة هو ملح القصة.